في تجربة سينمائية أولى تمكّنت المخرجة فدوى منصوري من تقديم عمل هام وموجع حمل عنوان "فراغ"، عرض مساء 25 جوان 2025 في قاعة صوفي قلي بمدينة الثقافة، وترك بصمة إنسانية قوية لدى الحضور. الفيلم الذي لا تتجاوز مدته 15 دقيقة يختزل بعمق أحد أكثر المواضيع المسكوت عنها في المجتمعات المعاصرة، وهو غياب الأبناء عن حياة والديهم بعد التقدم في السن، وتحول هذا الغياب إلى ألم صامت ينخر أرواحا لا تطلب سوى القليل من التقدير والحنان.
بطلة الفيلم هي ممثلة تونسية بارزة، كوثر بالحاج، التي جسدت ببراعة امرأة متقاعدة تعيش بمفردها رفقة كلبها بعدما غاب عنها أبناؤها، فابنتها في المهجر وابنها هجرها لينشغل بحياته الخاصة دون أن يترك لها حتى قليلا من التواصل. يبدأ الفيلم بمشهد دافئ ظاهريا لأم تبتسم وهي تلاعب كلبها، لكنه سرعان ما يتحول إلى صورة حزينة تختصر ما تبقى من حياة تآكلت بصمت، حياة يملؤها فراغ أبنائها الذين اختاروا الانسحاب من مشهد أمهم اليومي وتركها تواجه شيخوختها وحدها.
من خلال استخدام الضوء الطبيعي واللقطات الثابتة ذات الإيقاع البطيء، ترسم المخرجة عوالم داخلية متكسرة، حيث يصبح الكلب بديلا عاطفيا في منزل كان يجب أن يملأه صوت الأبناء ودفء العائلة. تلتقي البطلة بصديقتها عبر الهاتف، وتنكشف من خلال الحوار مأساة مزمنة لا تخصها وحدها، بل هي حالة تتكرر يوميا في صمت وراء أبواب كثيرة في المدن والقرى، حيث تسكن الأمهات والآباء وحدهم بينما ينهشهم الفراغ العاطفي دون أن ينتبه أحد.
تنجح عدسة فدوى منصوري في تقديم فيلم محمّل بالرموز دون مباشرة، مؤلم دون صراخ، مكتفٍ بلغة الصمت والبكاء الصامت أمام صورة قديمة للأم في شبابها، مبتسمة للحياة، في مفارقة توجع القلب بين حاضر بارد وماضٍ كان يعج بالدفء. أما الموسيقى التصويرية التي أعدها عازف الكمان ياسين حناشي فكانت مرافقة وجدانية مؤثرة، حافظت على هوية تونسية واضحة رغم الطابع الحزين، وأسهمت في تعميق التأثر دون ابتذال.
الفيلم "فراغ" ليس مجرد تجربة سينمائية قصيرة، بل هو صرخة فنية تدعو إلى استعادة العلاقة بين الأبناء والوالدين، إلى إعادة النظر في فكرة "الدور" الاجتماعي للأم أو الأب الذي ينتهي في نظر البعض مع انتهاء الوظيفة الأبوية. أرادت فدوى منصوري أن يكون فيلمها بمثابة مرآة للجمهور، ليرى كل مشاهد نفسه، وربما والدته أو والده، في انعكاس تلك الصورة الموجعة، فتقول من خلاله ببساطة إن أعظم أشكال البر تبدأ بمكالمة هاتفية، بزيارة قصيرة، بابتسامة صادقة... قبل أن يصبح حضور الآباء مجرد "فراغ" لا يُملأ بعد فوات الأوان.