بقلم الكاتبة الصحفية سيرين النجار
في العالم العربي، تبقى العلاقة بين الدين والسياسة أحد أكثر الملفات تعقيدا وحساسية. ورغم أن الدين في جوهره رسالة أخلاقية وروحية سامية، فقد تحوّل في أزمنة كثيرة إلى أداة تُستخدم لتبرير القمع، وتزييف الإرادة، وتمرير المشاريع السلطوية تحت لافتة "الشرع" أو "الهوية الإسلامية" ..
السؤال الذي يطرح نفسه، متى نتجاوز هذا الاستخدام النفعي للدين؟ ومتى ننتقل من التوظيف السياسي للدين إلى علاقة ناضجة بينه وبين الدولة والمجتمع؟
الدين من ضمير فردي إلى وسيلة للهيمنة
الدين في الأصل تجربة ذاتية داخلية، تبني أخلاق الفرد وتضبط سلوكه في علاقته بخالقه وبالناس، لكن حين يُسحب الدين من مجاله الأخلاقي والروحي الخاص، إلى فضاء السلطة، يتعرض للتشويه.. وتاريخ الأمة الإسلامية مليء بلحظات كان فيها الدين أداة بيد الحاكم، من شرعنة الاستبداد باسم "ولي الأمر"، إلى تبرير القتال ضد المعارضين باسم "الخوارج"، وصولا إلى استصدار الفتاوى لتلميع قرارات سياسية صرفة.
ومع ولادة الدولة الحديثة، ازداد هذا التوظيف سوءًا، إذ اقتحمت الحركات الإسلامية الحلبة السياسية بأساليب دعائية، ورفعت شعارات دينية لاختصار قضايا المجتمع في صراعات عقائدية، متجاهلة أولوية الحرية والكرامة والتنمية..
الدولة الحديثة لا تحتاج إلى دين لتحكم
الدولة الحديثة تقوم على القانون والمواطنة، لا على العقيدة أو الهوية الدينية.. أساس شرعيتها هو العقد الاجتماعي، لا البيعة ولا "التفويض الإلهي".. مهمتها ليست "هداية الناس" بل توفير الأمن والعدالة والفرص المتكافئة.
حين تكون الدولة محايدة دينيا، فهي لا تعادي الدين، بل تحميه من التوظيف الرخيص وتضمن حرية الاعتقاد للجميع.. أما حين تصبح الدولة "دينية"، فإنها تسحق التنوع باسم "الحقيقة المطلقة"، وتفتح الباب أمام الاستبداد المغلف بالقداسة.
من التجارب المعاصرة على التوظيف الديني
في السعودية مثلا، تحالف آل سعود مع المؤسسة الدينية أنتج نظامًا يقوم على "الطاعة" مقابل الأمن، واستُخدم الدين لتبرير إقصاء المرأة وقمع الحريات لعقود.. في إيران، سقط نظام الشاه العلماني ليُستبدل بـ"ولاية الفقيه"، التي صادرت المجال العام باسم الدين الشيعي الرسمي.. في مصر، استغل الإخوان الدين للوصول إلى السلطة، ثم وظفه العسكر لإسقاطهم، كل ذلك دون أي مشروع سياسي حقيقي.
أما في تونس، فقد بقيت العلاقة بين الدين والدولة متأرجحة، لا هي مدنية بالكامل، ولا دينية تماما، وسط جدل دائم وأحيانا مختلق لسبب أو لآخر، حول الهوية والدستور والشريعة.
الأخطار الكبرى لاستغلال الدين سياسيا
عندما يُستخدم الدين في السياسة، يتم تقديس الحاكم وتحريم نقده، تسقط المحاسبة، وتُبرر الانتهاكات باسم "المصلحة الشرعية".. كما يؤدي هذا التوظيف إلى تمزيق المجتمع، فكل طرف يدعي احتكار الحقيقة، وتتحول الخلافات السياسية إلى صراعات دينية..
وفي الأثناء، تُقيد الحريات، وتُراقب الضمائر، وتُقمع النساء، وتُشلّ حركة التجديد والاجتهاد الديني، لأن الفقيه يتحول من مفكر حر إلى بوق للسلطان.
هل العلمانية هي الحل؟
العلمانية ليست عداء للدين كما يروج لها البعض من المتسلقين على عتبات "الدين السياسي" حماية لمصالحهم، بل تنظيم للعلاقة بينه وبين الدولة.. هي التي تضمن حرية المعتقد، وتحمي الدين من الاستغلال.
المطلوب ليس إقصاء الدين، بل إبعاده عن أدوات الدولة القسرية، ليبقى في مجاله الطبيعي الخاص والمرتبط بالضمير، والثقافة، والأخلاق.. فالدين أسمى من أن يُستغل في الحملات الانتخابية أو يُوظف لتبرير الاستبداد..
نحو دولة مدنية بمرجعية إنسانية
ما نحتاجه اليوم هو دولة مدنية، لا دينية ولا معادية للدين، تحترم تنوع الأشخاص كمواطنين وتكفل حقوقهم دون تمييز.. دولة لا تسعى لأسلمة المجتمع، بل تترك له حرية التدين والاختيار.. بالمقابل، على المؤسسات الدينية أن تتطهر من الفساد والتبعية، وأن تعود إلى دورها الروحي ولما لا التربوي والثقافي لا السياسي.
إن العلاقة بين الدين والدولة لا يجب أن تكون صراعا ولا استغلالا، بل تمايزا صحيا، فالدين يمنح الذات و المجتمع القيم، والدولة تطبق القانون على الجميع دون تفريق أو تمييز.
لا دين يُفرض.. ولا سياسة تُؤلَّه
في النهاية، لا خلاص لنا من أزماتنا السياسية والفكرية إلا بتحرير الدين من قبضة السياسيين، وتحرير الدولة من قداسة زائفة، يجب أن نكفّ عن تسليع الدين في سوق السياسة، وعن تلويث السياسة بخطاب ديني مفرغ من جوهره.. فالدين حين يُستغل، يُهان، والسياسة حين تُقدّس، تفسد.. ولا نهوض حقيقي إلا إذا بُنيت الدولة على أساس المواطنة، لا العقيدة، وعلى العقل، لا النقل، وعلى المسؤولية، لا الطاعة العمياء.