اليوم، وفي هذا العصر الرقمي الذي نعيشه، لم تعد الشهرة مرتبطة بالموهبة أو الإنجاز، بل باتت تُصنع على أعين الجمهور وبمشاركته النشطة، في خضم ضجيج إعلامي لا يفرّق بين القيمة والفرقعة، ولا بين التأثير والتطفل..
ما نشهده اليوم ليس مجرد "ترند عابر"، بل تحوّل عميق في بنية الوعي الجمعي، تغذّيه التكنولوجيا من جهة، وتغريه النزعة الاستهلاكية من جهة أخرى.
البعد النفسي: لماذا يفعلون ذلك؟
الهوس بالاعتراف والقبول الاجتماعي..
في عمق كل فرد حاجة فطرية للاعتراف من الآخرين، وتقدير الذات، غالبًا ما يتم ربطه اليوم بعدد الإعجابات والتفاعلات.. نجوم "البوز" يعيشون في حلقة مفرغة من التأكيد الخارجي، حيث لا يعود لديهم معنى لوجودهم خارج دوائر الانتباه.. هذه الحالة تُعرف نفسيًا بـ"Fame Addiction" أو إدمان الشهرة.
اضطراب الهوية والسعي القسري للتميز..
في عالمنا اليوم، باتت الهويات هشّة، يُعاني كثير من هؤلاء من غياب مركز نفسي واضح، فيلجأون إلى لعب الأدوار ، مرة الضحية، مرة البطل، مرة الثائر ، كوسيلة لتعويض خواء داخلي.. إنهم لا يعرفون أنفسهم خارج ما يظهرونه للناس.
النرجسية الرقمية..
بعض ما يسمى ب"الترنديين" لا يسعون فقط للقبول، بل للتمركز في قلب كل قصة، ليكونوا "مرآة الحدث" لا "صدىً له".. يظهرون في كل مأساة وكأنهم يتألمون أكثر من الضحايا الحقيقيين، لا حبا في الناس، بل رغبة في تلميع الصورة..
البعد الاجتماعي: لماذا يتابعهم الناس؟
تواطؤ الجمهور اللاواعي..
في الحقيقة المتابع العادي ليس بريئًا، هو جزء من دائرة التفاعل التي تصنع هذه الفقاعات، الجمهور يجد في هؤلاء "الترنديين" متنفسًا، أو حتى مسرحًا للفضول والفرجة، وقد يبرر المتابعة بعبارات مثل: "نتسلى، فقط للضحك، نتابع لا أكثر".. لكن الواقع أن كل تفاعل يزيد من ترسيخ هذه النماذج، ويمنحها شرعية زائفة.
انسحاب القدوات الحقيقية..
في المقابل، يغيب الكثير من المفكرين، العلماء، الفنانين الحقيقيين، عن منصات التأثير، إما لصعوبة المواكبة، أو لرفضهم الانخراط في لعبة الضجيج، فتُترك الساحة لأصحاب الصوت الأعلى، لا الرؤية الأعمق.
تغير مفهوم "النجاح"..
المجتمع اليوم لم يعد يحتفي بالإنجاز بقدر ما يحتفي بالظهور، لقد تم تفريغ فكرة النجاح من مضامينها الأخلاقية والمهنية، لتُختزل في الوجود الرقمي، حتى ولو كان بلا معنى.
البعد الثقافي : ما الذي يُنتج هذه الظاهرة؟
صعود "ثقافة السطحية"..
نحن في زمن يستهلك المعلومة كما يستهلك الوجبة السريعة، بسرعة، وبلا هضم حقيقي.. لا وقت للتفكير، لا مجال للتعمّق، لذلك يجد صانعو "الضجة اللحظية" بيئة مثالية للانتشار، لأنهم لا يطالبون الجمهور بأي مجهود ذهني.
اقتصاد الانتباه (Attention Economy)
المنصات الرقمية وخاصة السوشل ميديا نفسها تشجّع هذه الظاهرة، فكلما زادت التفاعلات، زادت الأرباح. الخوارزميات لا تهتم بالمحتوى أو القيم، بل فقط بما هو قابل للانتشار، وهكذا، يتحول "الترند" من حدث اجتماعي إلى سلعة تُسوّق.
تشوّه القيم الجمالية والمعرفية..
عندما تتكرّس نماذج "مشوهة" كمصدر إلهام، فإن الذوق العام يتأثر، والقيم الثقافية تتآكل، لم يعد الطفل أو الشاب يحلم بأن يكون عالِمًا أو فنانًا أو كاتبًا، بل مؤثّرًا، حتى وإن لم يمتلك أي محتوى حقيقي.
ما العمل؟
لا بد من إعادة تعريف النجاح..
يجب أن نعيد الاعتبار للمسار لا للنتيجة، للقيمة لا للكمّ، النجاح الحقيقي ليس في التريند، بل في الأثر العميق والمستدام.
تعزيز التربية الإعلامية..
على المدارس والجامعات والمجتمع المدني غرس وعي نقدي تجاه المحتوى الرقمي، وتعليم الأجيال كيف تستهلك المعلومات، لا أن تبتلعها دون فحص..
دعم الأصوات ذات القيمة..
حتى لا تُغرق الضوضاء رسائل المعنى الحقيقي ، يجب أن يتكاتف الوعي الجماعي لدعم أصحاب الرسالة، ومساعدتهم في اختراق جدار الصخب العام..
بين الشهرة والأثر، ليست كل شهرة دليل نجاح، وليست كل ضجة دليلاً على التأثير، ما نحتاجه اليوم ليس "محترفي الحدث"، بل صنّاع وعي، لا يتسلقون اللحظة، بل يصنعون المعنى والعمق .. نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى من يصدر الصوت الحقيقي.