حين يتجاوز الفنان الأضواء..
قليلون هم الفنانون الذين أثاروا جدلا في العالم العربي كما فعل الفنان اللبناني فضل شاكر، لم يكن الجدل متعلقا بفنه أو حياته الشخصية فقط، بل تحوّل إلى قضية رأي عام تتداخل فيها الأبعاد القانونية، النفسية، الاجتماعية والثقافية والسياسية..
من فنان تغنّى بالحب والرومانسية، إلى متهم بالتورّط في أحداث عنف مسلح، وصولا إلى محاولات العودة إلى الفن.. تتعدد محطات فضل شاكر لكنها تطرح سؤالًا أساسيا:
هل يمكن للفنان أن يطلب الغفران دون مساءلة؟ وهل المجتمع قادر على التسامح دون تبرير؟
من الصوت العاطفي إلى العنف السياسي..
بدأ فضل شاكر مسيرته الفنية أواخر التسعينيات، ونجح بسرعة قياسية في ترسيخ اسمه كأحد أبرز الأصوات الرومانسية في الوطن العربي.. أعماله وصلت إلى شرائح واسعة من الجمهور، وكان يُنظر إليه كفنان بعيد عن السياسة والنزاعات.
لكن التحول المفصلي جاء عام 2012-2013، حين أعلن اعتزاله الفن والتحق بجماعة الشيخ أحمد الأسير ذات الطابع السلفي المتشدد..
بعدها، ظهر شاكر في فيديوهات علنية عنيفة يهاجم الجيش اللبناني، واتُّهم رسميا بالمشاركة في أحداث عبرا الدامية، حيث سقط عدد من الجنود..
هذه النقلة الدراماتيكية ليست فقط انقلابًا في مسيرته، بل نقطة صدام بين الفن كرسالة، والتطرف كخيار..
انهيار نفسي أم تحول عقائدي؟
يمكن فهم تحول فضل شاكر من منظور نفسي، بعيدا عن أي تبرير سطحي، تحوله من نجم إلى "متطرف"، في ضوء أزمات الهوية والانتماء.. فالفنان قد يشعر، بعد سنوات من الشهرة والنجاح، بفراغ داخلي، لا يملؤه سوى الانخراط في جماعة توفر له معنى وقضية حسب اعتقاده طبعا وخلفياته الفكرية والثقافية والاجتماعية..
هذا ما تؤكده تحليلات علم النفس الاجتماعي، حيث أن الأشخاص الذين يعيشون صراعات داخلية بين صورتهم العامة وحقيقتهم الذاتية، غالبًا ما يكونون عرضة للانجراف نحو جماعات تطرح "خلاصًا روحيا أو عقائديا".. ولعل الانعزال المفاجئ عن الفن، والتشدد في المظهر والتصريحات، يشير إلى حالة من التطرّف الذاتي قبل أن يكون سياسيا أو دينيا..
الانقسام الاجتماعي.. بين من يعتبره تائبًا ومن يراه مدانًا..
محاولات فضل شاكر للعودة إلى الساحة الفنية بعد سنوات من التواري والاعتزال، أثارت موجة رفض شعبي ورسمي.. ففي عام 2018، تم الإعلان عن مشاركته في غناء تتر مسلسل مصري، ما دفع الجهة المنتجة إلى سحب الأغنية تحت ضغط الرأي العام، خصوصًا من ذوي ضحايا الجيش اللبناني..
هنا يتجلّى التناقض بين "حق الفرد في التوبة" وبين "حق المجتمع في الذاكرة والعدالة".. فهناك من يرى في توبة شاكر محاولة لاستعادة حياته، فيما يرفض آخرون هذا "النسيان الانتقائي" لما يعتبرونه تورطًا مباشرًا في أعمال مسلحة..
في السياق ذاته، يمكن قراءة هذا الانقسام كمرآة لصراع أوسع، كيف نُوازن بين احترام الفن وحرية التعبير، وبين المسؤولية الأخلاقية والمساءلة القانونية؟ وهل يسع المجتمع أن يغفر دون أن ينسى؟
رمزية الفن.. هل يمكن فصل الصوت عن السلوك؟
لا تزال صورة الفنان في العالم العربي، مرتبطة بسيرته الشخصية، فالفن ليس مجرد عمل، بل مرآة لقيم صاحبه، ما يجعل الجمهور أكثر حساسية تجاه قضايا مثل التطرف أو العنف.. فضل شاكر، بصوته العاطفي وتاريخه الرمزي، يمثّل صدمة مزدوجة، بين الانقلاب على الفن، والانخراط في خطاب عنيف يتناقض مع ما قدّمه لسنوات..
في المقابل، هناك تيار يرى أن الفن يجب أن يُقيّم بمعزل عن السيرة الذاتية.. كما أن الكثير من الفنانين العالميين تورطوا في قضايا سياسية أو أخلاقية لكن لم يُلغَ إرثهم الفني.
ولكن في حالة فضل شاكر، الوضع أكثر حساسية، ليس فقط لأن التهم خطيرة، بل لأن الفن هنا كان أداة لاحقة لإعادة تسويق الذات لا مجرد تواصل مع الجمهور.
التسامح الاجتماعي وحدوده الرمزية..
هل يستحق من أعلن التوبة فرصة ثانية؟ نعم، لكن بشرط أن تكون هذه التوبة مقرونة بمساءلة حقيقية، واعتراف واضح بالمسؤولية..
فضل شاكر لم يُحاكم محاكمة مدنية كاملة، ولم يُنفذ عليه حكم صادر بالسجن، بل يعيش في منطقة لا تخضع للسلطة الأمنية المباشرة، ويصدر من هناك أغاني جديدة.
هذا الوضع يضع المجتمع أمام إشكالية حقيقية، هل التسامح في هذه الحالة يُعد تطبيعًا مع السلوك السابق؟
وهل قبول إنتاجه الفني مجددًا يساهم في طمس الذاكرة الجمعية للضحايا؟
بين الغفران والعدالة… لا فن خارج السياق..
قضية فضل شاكر تتجاوز شخصه، وتطرح أسئلة عن العلاقة بين الفن والسلوك، بين الجمهور والعدالة، وبين الصورة العامة والنية الداخلية.. لا يمكن تبرير انخراطه في التطرف بالضغوط النفسية أو الأزمات الشخصية، كما لا يمكن إنكار رغبته في التوبة.
لكن في نهاية المطاف، يبقى المعيار ليس ما يقوله الفنان، بل ما يفعله، والأهم من ذلك ما يعترف به.. والتسامح، لكي لا يتحول إلى تبرير، يجب أن يمر عبر بوابة العدالة والمساءلة.