في العقود الماضية، لطالما اعتُبر الفن واحدًا من آخر معاقل الحرية وأسلحة الدفاع عنها. مساحة غير محدودة يستطيع فيها الفنان التعبير عن رؤاه، انتقاد المجتمع، وتعزيز النقاش الحر. لكن في السنوات الأخيرة، بدأ يتسلل صمت ثقيل إلى أروقة المسارح وصالات العرض، وحتى إلى شاشات السينما وصفحات الكتب. صمت لا تفرضه قوانين صارمة أو رقابة مباشرة، بل حالة من الرقابة الذاتية المتنامية، مدفوعة بالخوف من العزلة الاجتماعية، والإلغاء الرقمي، وفقدان الفرص.
تقرير حديث صدر بعنوان "خائفون من الحديث بحرية" كشف عن تراجع صادم في ثقة الفنانين بحرية تعبيرهم. ففي عام 2020، شعر 32% من الفنانين البريطانيين بأنهم أحرار في التعبير عن آرائهم دون خوف من العواقب. اليوم، لم يتبق سوى 10% فقط يشعرون بذلك. بينما أعرب 81% عن خشيتهم من التحدث عن مواضيع "غير رائجة" خوفًا من أن يتم تهميشهم أو وصفهم بصفات قد تضرّ بسمعتهم ومسيرتهم المهنية.
هذه الأرقام تعكس تحولاً ثقافيًا عميقا، فالفنان، الذي كان يُنظر إليه كمتمرّد وناقد، أصبح مضطرا للتماهي مع خطاب اجتماعي سائد، لا لأنّه يؤمن به بالضرورة، بل خوفا من فقدان جمهوره أو مكانته.
من بين الحالات اللافتة التي وثّقها التقرير، فنانين تم إقصاؤهم من معارض أو عروض مسرحية بسبب تعليقات أدلوا بها على وسائل التواصل الاجتماعي، أو لأن أعمالهم طُبعت بنَفَس اعتُبر "غير متماشي" مع السردية السائدة. بعضهم فقد تمويلًا، وآخرون خسروا جمهورهم أو تعرضوا لهجمات شرسة عبر الإنترنت.
الظاهرة هنا ليست رقابة حكومية تقليدية، بل رقابة اجتماعية تغذيها ثقافة "الإلغاء" و"التصحيح السياسي"، حيث يواجه الفنان صراعا داخليا بين الأمان المهني والصدق الفني.
لكن هل هذه الظاهرة مجرد موجة عابرة؟ أم أنها إعادة تشكيل شاملة لمفهوم الفن ودوره في المجتمع؟
يذهب بعض المحللين إلى أن هذه الحالة قد تُنتج فناً أكثر احترافية وتنمي الحساسية تجاه الفئات المهمّشة. بينما يرى آخرون أن ما نخسره أكبر، الفن الصادق، المفاجئ، المتناقض، والمحرّض على التفكير..ذلك النوع من الفن الذي لا يخشى أن يُخطئ، ولا أن يطرح تساؤلات مزعجة.
اليوم، نحن أمام مفترق طرق، فإما أن يُستعاد للفنان حريته في الخطأ والتجريب، أو أن يصبح الفن تدريجيا مرآة ناعمة حتى لا نقول منافقة، تعكس الإجماع وتطمئن الجمهور بدل أن تصدمه وتحفّزه وتواجهه بالحقيقة.
فالسؤال الحقيقي ليس فقط هل الفنان خائف؟ بل أيضا، ماذا خسرنا حين خاف؟